مشروع الجزيرة .. مذكرات أبوسنينة – (2 – 5)
بقلم عبدالسلام العقاب
أوردت في المقال السابق جانباً من السيرة الذاتية لطيب الذكر الراحل عبدالرحيم أبوسنينة وكانت تلك التقدمة مهمة جداً لأجل أن نقف على مجاهدات أمثال أؤلئك القادة الذين أثروا الحياة النقابية و كذا ذكر تنقله بين الوظائف القيادية و إعادة إنتخابه لعدة مرات من قواعد المزارعين ما يؤكد أنه صدقهم و قدم لهم ما وعدهم به ثم لنقف اليوم على محطات كثيرة أوردها الراحل عبدالرحيم أبوسنينة في مذكراته و نهدف من إيرادها وعرضها على القارئ الكريم من أجل أن يقف القادة القادمون لهرم جمعيات مهن الإنتاج الزراعي بل لكل الذين يتسنمون وظائف قيادية حتى على مستوى القواعد أن يقفوا على تجارب من سبقوهم خاصةً و القادمون يتفوق زمانهم على زمان سلفهم وجود هذه الوسائط التي أزاحت الحواجز وإختصرت المسافات وحفظت على الناس قيمة الوقت و أعانت على الاستفادة من البرامج المتاحة على تلك الوسائط ما يتيح سلاسة في القيادة والإلتقاء مع قواعدهم من المزارعين عبر تجمعاتهم الوسائطية فيما يعرف بـ(القروبات) الزراعية على تلك الوسائط.
توقف السرد في المقال السابق عند حديث أبوسنينة عن الشركة البريطانية الزراعية صاحبة الإمتياز في مشروع الجزيرة و التي ظلت تزرع القطن لتصديره لمصانع لانكشير بإنجلترا ، و يستطرد أبوسنينة في مذكراته أن عائدات القطن لا تغطي تكلفة الإنتاج ولا تكفي لإعاشة أسرة المزارع واستمر الحال هكذا وتعرض المزارعون وأسرهم إلى ضنك العيش و الفقر المدقع.
وأبان أبوسنينة في مذكراته أنه في عام 1945م حضر السيد مكي عباس والذي كان يعمل وقتها في تنمية المجتمع و ذلك بعد تخرجه من جامعة أوكسفورد و كان في ضيافة المهندس عابدون عبدالرحمن والذي كان يعمل مهندساً بالري مسؤولاً عن نقطة (بيكة) .. وظل الأستاذ مكي عباس يجوب قرى المنطقة و يدخل المنازل ليقف بنفسه على مستوى معيشة المزارعين و التي وصل فيها لقناعة أن المشروع لم يحدث أي تغيير في حياة المزارعين خاصةً و أن المشروع قد بلغ من العمر وقتها خمسة و عشرون عاماً ولا يزال المزارع آنذاك يقطن في قطية من الطين و القش وبداخلها كل مستلزمات الأسرة من المرحاكة و الخمارة والعجل والبهم والطاجن و العنقريب و كان شربهم من مياه الترع إلا من بعض قرى نظار القبائل فإن بها آبار سطحية و في بعضها مدارس أولية .. ظل الاستاذ مكي عباس يوجه المزارعين للمطالبة بمال الإحتياطي الذي يصرف في أوقات الشدة و ما من شدة بأكبر من هذه التي يعيشها المزارعون ..
تبلورت فكرة المطالبة بصرف مال الإحتياطي و كانت هي الشرارة الأولى لحركة المزارعين في عام 1946م حيث تحرك المزارعون من مكتبي السليمي و عبدالحكم من القسم الأوسط آنذاك و ذلك بعد تكوين لجنة عمل شملت الشيخ عوض الكريم عبدالله من الطلحة ود الطريفي
الشيخ المبارك أحمد دفع الله من الطلحة ود الطريفي الشيخ الحاج موسى من المدينة عرب الشيخ أحمد دفع الله أبوسنينة المعروف بالفكي العطايا الشيخ محمد عبد الصادق من شلعوها الجعليين الشيخ أحمد محمد دفع الله القدال من قرية حليوة
الشيخ محمد فضل الله من قرية برتبيل
الشيخ عمر بابكر الشيخ من قرية برتبيل
الشيخ النعيم أحمد العوض من قرية الوراق
الشيخ دفع الله عبد القادر من قرية ود رواج
مرت هذه اللجنة علي كل المزارعين للتوقيع بأختامهم على العرائض للمطالبة بصرف مال الإحتياطي .. وتم تقديم تلك العرائض إلى المفتشين الزراعيين البريطانيين بمكتب السليمي و مكتب عبدالحكم و اللذان حولاها لمدير القسم الزراعي الأوسط بود النعيم والذي حولها بدوره لمحافظ المشروع والذي حولها إلى الحاكم العام و أنتظر المزارعون و جاءهم الرد من مدير المديرية والذي طلب حضور اللجنة لتلقي رد الحاكم العام وذلك بتاريخ 1946/7/10م وكان ذلك اليوم مشهوداً لإنتشار الخبر في كل مناطق المشروع و تجمهر المزارعون للتعرف على رد الحاكم العام والذي كان مخيباً للآمال إذ جاء فيه أن مال الإحتياطي يصرف في أوقات الشدة فقط نافياً بذلك أن المزارعين يعيشون آنذاك أوضاعاً لا يعانون فيها شدة العيش و شظفه ••
وقتها حصل الهرج و الصياح بما يشبه الهتاف في وجه المستعمر وقام المزارعون بتكسير قلل المياه الموجودة في شبابيك مكاتب الإدارة كما قاموا بكسر التنكة التي تحمل فيها القهوة للمدير ..
هنا تدخل أعضاء مؤتمر الخريجين بقيادة الأستاذ أحمد خير المحامي وأوعز للمزارعين بالإضراب عن زراعة القطن
ما حدا بالشيخ المبارك أحمد دفع الله أن يحضر مصحفاً و يطوف به، على المزارعين فرداً فرداً ليقسموا بالله العظيم و كتابه الكريم بأن لا يزرعوا القطن في حواشاتهم وأن تقتصر زراعتهم على عيش الذرة.. و فعلاً تم الإضراب في كل الجزيرة و باءت بالفشل كل المحاولات مع العمد والنظار لإثناء المزارعين عن الإضراب وهنا تحركت اللجنة إلى الخرطوم بعد أن توسعت و ضمت أعضاء من مناطق المشروع المختلفة و نزلت اللجنة بدار الخريجين بأم درمان وكان مؤتمر الخريجين فد تبنى قضية المزارعين و قام بتنظيم مطالبات صرف مال الإحتياطي و ظلت قيادات الخريجين تجلس الساعات الطوال تناقش ظروف المزارعين و أحوالهم المعيشية و قدم المؤتمرمذكرات للحاكم العام و السكرتير الإداري وتطورت المطالب من صرف جزء من مال الإحتياطي إلى المطالبة بتمثيل المزارعين في إدارة المشروع ثم المطالبة بتحسين مياه الشرب والإهتمام بالبساتين .. كان رد الحاكم العام وقتها عند استلام مذكرة الخريجين و قد أشار بكلتا يديه أن القضية كانت صغيرة و لعلها الآن أصبحت كبيرة
وظلت لجنة المزارعين قرابة الشهرين و الإضراب ما زال مستمراً وأخيرا لجأت الإدارة البريطانية للزعماء الدينيين السيد عبدالرحمن المهدي والسيد علي الميرغني والسيد الشريف يوسف الهندي للتوسط عند المزارعين لفك الإضراب و بعد محاولات متكررة مع اللجنة و المؤتمر تم الإتفاق مع المستعمر على صرف جزء من مال الإحتياطي بواقع عشرة قروش للقنطار ليكون إبراراً للقسم الذي أقسموه على كتاب الله تعالى كما أسلفنا بعدم زراعة القطن و من ثم إعلانهم فك الإضراب كما نص الإتفاق في أن ينظر في بقية المطالب الأخرى فيما بعد ..
نتوقف هنا مع الراحل عبد الرحيم محمد أبوسنينة في مذكراته والتي قصدت منها إبراز صفات القيادات النقابية منذ عهد الاستعمار وكما أسلفت فإنهم ما وهنوا ولا ضعفوا و لا استكانوا بل كانوا خير سلف لمن أراد أن يكون خلفاً لهم على أمل أن نواصل معه في الجزء الثالث من مذكراته في السبت القادم إن شاء الله تعالى
إن مد الله في الآجال والله من وراء القصد وهو الهادي لسواء السبيل