محجوب مدني محجوب يكتب:
الآيديولوجيا وأثرها على سلوكنا
كثيرا ما نخلق بيننا وبين علاقاتنا مع الناس جدارا سميكا وهميا لا علاقة له بالواقع.
مجرد آيدولوجيا (معتقد) في تفكيرنا لا يمت إلى الواقع بصلة.
من خلال إنشاء علاقات وصداقات مع الآخرين.
من خلال اختيار شريكة الحياة أو شريك الحياة.
من خلال اختيارات انتماءاتنا السياسية.
صحيح كل هذه العناصر تحتاج إلى أن نتوافق معها آيدولوجيا (فكريا) وبالتالي نفسيا إلا أننا أحيانا نجد أنفسنا خلقنا هذا الحاجز الآيديولوجي بمحض أنفسنا لا علاقة له بالواقع.
وفي النهاية نكتشف أن الذي سافرنا إليه بعيدا لم يكن يختلف كثيرا ممن يسكن بجوارنا.
لا يختلف إلا من خلال ما رسمناه في عقولنا.
وأن الذي صرفنا عليه أموالا طائلة كان يمكن أن نحصل عليه مجانا.
وأن الذي خاصمنا العالم من أجله لا يستحق أن نخاصم من أجله بهيمة.
مجرد آيدولوجيا في أذهاننا لا علاقة لها بالواقع.
كم خلقنا حواجز في علاقاتنا مع الآخرين بسبب هذه الآيدولوجيا في حين أن تفاصيل حياتهم هي ذاتها تفاصيل حياتنا لا تختلف إلا في شكليات محدودة كانت تعمي أبصارنا، ولا نراها على حقيقتها.
تمر السنين وتتعاقب الأجيال ونلتقي بتلك العلاقات في ظروف مختلفة تجعلنا نحتك بها، فإذا هي تمارس حياتها مثل ما نمارسها تماما.
تعجب بإعجاباتنا وتسر بما يسرنا وتغضب لما نغضب وتحزن لما نحزن؛ لنكتشف أنها لا فرق بيننا وبينهم سوى هذا العازل الذي خلقناه نحن بأنفسنا بسبب هذه الآيدولوجيا.
نشعر بأن الآخرين يختلفون عنا نسبة لانتماءاتهم القبلية أو المادية، فنتحاشا خلق علاقات بيننا وبينهم، فإذا جمعتنا بهم الأيام في ظروف مختلفة نجد أن هذا الاختلاف موجود في أذهاننا فقط، ولا علاقة له بالواقع، فطباعنا وميولنا تكاد تكون متطابقة.
نشعر بأن الآخرين ينتمون إلى مستوى اجتماعي أعلى من مستوانا، فإذا جمعتنا بهم السنين والأيام في ظروف مختلفة اكتشفنا أنهم يعيشون حياة أبسط من حياتنا ويتعلقون بأشياء لا علاقة لها بحكمنا فيهم.
نشعر بأن الآخرين يختلفون عنا في انتماءاتهم الدينية، فنتحاشا خلق علاقات معهم وفقا لهذه الاختلافات، فإذا مرت بنا الأيام والسنين وجمعتنا بهم في ظروف مختلفة وجدنا أن غيرتهم على الدين لا تقل عن غيرتنا له إن لم تكن أقوى.
وعلى ذات الفهم الآيدولوجي الذي هو محض فهم ذهني لا علاقة له بالواقع نصر على علاقات (نعتقد) أنها تنتسب لذات ميولنا ومعتقداتنا وانتماءاتنا، فإذا بنا نكتشف أنها بعيدة عنا كل البعد.
الآيديولوجيا هي من جعلتنا نعتقد أن هذه العلاقات هي التي ينبغي أن نحرص على رعايتها وحفظها بل والافتخار بها.
رواسب مجتمعية تلعب دورا كبيرا في صياغة هذا الحاجز الآيدولوجي الموجود في أذهاننا إلا أنه لا علاقة له بالواقع سواء إثباتا أو نفيا.
فقد نثبت عبر هذه الآيدولوجيا ما هو غير موجود.
وقد ننفي بها أيضا ما هو موجود.
إلا أنه ولله الحمد والمنة بانفتاح المجتمعات على بعضها البعض والتي صارت سمة من سمات عصرنا خففت من حدة هذه الآيدولوجيا إلى حد كبير إذ كشفت بأن ما نعتقد بأنه غريب عنا هو ليس كذلك.
وما نعتقد بأن ما هو قريب منا هو أيضا ليس كذلك.
وما نعتقد بأن ما اخترناه ليس بذات الصفات التي اخترناها من أجله.
وما نعتقد بأن ما رفضناه هو ليس بتلك الصفات التي رفضناها من أجله.
صداقاتنا زيجاتنا دراستنا عملنا سكننا ولاءاتنا انتماءاتنا كل هذه العناصر التي تمثل حياتنا للأسف تسيطر عليها هذه الآيدولوجيا بقدر كبير، وبالتالي بدلا من أن يقوم الواقع بتحديد رغباتنا وميولنا وانتماءاتنا نجد أن الآيدولوجيا هي من تقوم بذلك.
فنخسر علاقات هي من صميم انتماءاتنا.
ونكسب علاقات هي بعيدة كل البعد عن انتماءاتنا.
علاقة الآيدولوجيا بواقعنا تشبه علاقة ذلك السائل الذي نجد فوقه طبقة شفافة، فنظن أن الإناء كله جامدا، ولا نعلم أن الذي يفصل بيننا وبين هذا السائل سوى نقرة على تلك الطبقة.
والعكس صحيح.
وعلاقتنا بالآيدلوجيا على الصعيد الآخر أشبه بإناء نظن أنه سائلا، وما نعلم أن نقرة على السائل تجعلنا نكتشف أنه جامد كله وما هذا السائل سوى طبقة في أعلاه تخفي جموده.
قد ضللتنا هذه الآيدولوجيا في اختيار علاقتنا وانتماءاتنا وزيجاتنا.
فهي قد تحيل المتخلف إلى متحضر والعكس.
وقد تحيل المتواضع إلى متكبر والعكس.
وقد تحيل المستهتر إلى جاد والعكس.
وقد تحيل العنصري إلى قومي والعكس.
بل قد تحيل المتدين إلى فاجر والعكس.
لكل ذلك نحتاج إلى أن ننظر في الطريقة التي نصدر بها أحكامنا.
فإن كانت تعتمد على الملاحظة والتجريب والمعلومة وبعيدة عن التعميم والانطباعات فقد برئت هذه الأحكام من أعطاب الآيدلولوجيا.
أما إذا صدرت أحكامنا على عوامل لا علاقة لها بالملاحظة والتجريب والمعلومة، وإنما اعتمدت على الأحكام المسبقة.
اعتمدت على الأحكام العامة.
اعتمدت على الأحداث المرتبطة بظرف معين ووقت معين.
اعتمدت على المقارنات والتشبيهات.
فحينئذ سنكتشف أننا نزلنا في صحراء بعد أن كنا نعتبرها روضة غناء.
سنكتشف أننا تخلصنا من أرض جدباء في حين أننا افتقدنا أرضا خصبة، وما ذلك إلا بسبب تأثير الآيدولوجيا علينا.