عثمان خالد … شاعر الزمن الجميل أحب مدينة بارا بعمق وتغنى بأشعاره عمالقة الفن
أهديك زهور … حاشاي أنت ندى الزهر
أهديتك حنان … ما قلبي عندك من زمان
وأنا راجي عطفك منتظر
وأهديك حروف ماقالا زول
وما أظن يقولا وراي بشر
أهديك عيوني عشان أتوب
الدنيا بعدك ما بتسر … يا حليلو
قبل أيام قليلة وقع في يدي عن طريق الصدفة كتاب أنيق أعده عادل عثمان عوض جبريل عن الشاعر الغائب الحاضر عثمان خالد الذي رحل عن عالمنا في وقت مبكر تاركاً في الأفواه كلمة وفي العين دمعة وفي الفؤاد لوعة على هذا الفراق لهذا المبدع المتميز الذي قدم إلينا من مدينة بارا الوادعة وبالتحديد من حي البكراوية والمولود عام 1941 … والذي رحل في العام 1993 بعد 52 عاماً قضاها يقطر إبداعاً وروعة وجمال.
الأستاذ عادل الذي أعد الكتاب عرف بالمثابرة والجدية في التوثيق وأيضاً بكتابه الإبداعية، وكتب الأستاذ أنس العاقب “عثمان خالد رحلة الحب والمجد والمأساه” والعنوان يجسد تلك الرحلة في سماوات الإبداع والشجن الجميل وفيها يتوغل راصداً تجربته الإبداعية وعشقه للشعر ” لم ينسى أن يكتب الشعر وفي بحثه الدائم المستمر عن الحب الذي كان يمني نفسه به، ظل ينبوعاً متدفقاً بالحب والعطاء” وفي ذات السياق يورد إشارات لأغنية “إلى مسافرة” التي وصفها “عندما فجر الفنان حمد الريح إلى مسافرة صمتت كل الألحان … قفزت بحمد الريح إلى الصدارة نجومية وجماهيرية والمدهش أن شاعرها عثمان خالد وجد نفسه أيضاً وقد أصبح نجماً جماهيرياً”.
كانت الدوحة إحدى المحطات القصيرة في مسيرة غربة ع خالد كما يحلو له أن يوقع قصائده.
أما الباحث “احمد عكاشه فضل الله” فقد كتب عن تجربة الشاعر دراسة عميقة ومتعمقة استناداً على مادة نظمية واسعة للشاعر ع خالد واصفاً تجربته بالنبل في ظل مجتمع قال عنه الكاتب “مسائل الغرام في ظروف تاريخية تتأرجح فيها المجتمع السوداني وثقافته وأدائه بين التقدم والتردي وبين التحرر والقمع” وخلص إلى أن تجربته الشعرية قد شكلت رومانسية شعرية جديدة في التاريخ الأدبي للشعر الغنائي المعاصر”.
عثمان خالد … نعم هو خالد في ديوان الشعر الغنائي السوداني وفي وجدان الناس، وتظل نمنمات أشعاره الشجية تفيض عذوبه ورقة ورومانسية بلا حدود … ولإن غادرنا عثمان خالد إلى دار البقاء فقد كانت حياته رحلة استغرقتها محطات من التطلع والتمرد والضياع والعذاب ولكنه ظل طوال الرحلة محباً للحياة مستمسكاً بها في كل الظروف وكان ينفر علانية من الموت إلى أن قهره السرطان … كان ع خالد متطلعاً لعالم جميل ولأحباب جميلين ولشعر جميل ولغناء جميل ومؤانسه تفيض جمالاً بالشعر والغناء … شيئان ظل عثمان خالد يحبهما بلا تحفظ … الشعر والجمال فقد كان محباً للشعر وأسيراً للجمال بل كان لا يخفي إعجابه بالجمال ولا يدعه يمر عابراً إن لم يقل فيه شيئاً … شعراً أو نثراً أو إعلان إعجابه صراحة بلا تردد وبلا خوف ولكن بأدب وذوق تسبقهما ابتسامته الساحرة الودودة.
ويضيف أنس العاقب أن الشعر عند ع خالد لم يكن صناعة، ولكنه كان حالة وجدانية يرتقي بها إلى درجة الإبداع، وأجمل مافي عثمان خالد إلقائه جمالاً وألقا ثم هو يكتب شعره بخط جميل آخاذ.
كانت فلسفة عثمان خالد هي الهروب من الموت بعبثية واعية، فهو يعبث بالحياة بالتمرد على الوظيفة وهو يعبث مع الحياة عندما كانت تفتح ذراعيها له في لحظات نادرة … ثم لا تلبث أن توليه ظهرها فيوليها هو ظهره وينطلق في اتجاه مضاد بين المغرب والمشرق والمنافي التي اختارها هو، وبين كل ذلك لم ينسى عثمان خالد أن يكتب الشعر في بحثه الدائم المستمر عن الحب الذي كان يمني نفسه به ظل ينبوعاً متدفقاً بالحب والصفاء والعذاب والضياع.
غنى للمبدع الراحل حمد الريح “إلى مسافرة” وأغنيه “رحلة عيون” للفنان صلاح ابن البادية كما كتب للفنان عبدالعزيز المبارك الأغنية الشهيرة إلى مذهلة “بتقولي لا” وأغنية “أحلى جارة” … وحياة شبابي ذبت في عينيك حنان ومغازلة … سافرت في رحلة مشاعر ملهمة ومتأملة … شفت الورود في وجنتك غيرانه جات متوسلة … حتى القمر غار من صفاك وأصبح يردد في الصلاة … جاك المسا أدى الفروض داعب شفايفك وغازلة … شال لون جميل من وجنتيك مسح خدوده وبللها.
تغنى له أيضاً الفنان الراحل عبدالعظيم حركة بأغنية “حنان” وشدت البلابل ب”سلافة الفن” و “طير الجنة” فيما صدح الفنان محمد ميرغني بأغنية “سمحة سمحة الصيدة” وترنم عثمان حسين بأغنية “أحلى البنات” وغنى له سيد خليفة عن الغربة.
بقدر ما أحب عثمان خالد وطنه السودان رغم مرافئ الغربة العديدة بين الدوحة وبغداد والرباط فقد أحب بصدق مدينة بارا مسقط رأسه والأرض التي تشعب من رمالها وسواقيها وطيبة أهلها صفاء القلب ونقاء السريرة ولا غرابة في ذلك فهي البلد الذي أنجب العديد من الشعراء.
ويقول في مقدمة ديوانيه “الساعه ستة” وهو واحد من أربع دواوين هي “إلى مسافرة” و “أحلى البنات” و “سهر الغربة” … إلى المغارب والغمامات التي اتكئ على أحضانها فتهبني الصحوة ودفقات العافية … إلى مدينة بارا حناناً وتعلقاً بحب … ويضيف شعراً:
بشوف قبال تشيلني الفرحة ترحل بي لعمر فات … بشوف بلدي وأحكي هواك وأقول يا بارا فيك أبيات … وأعطر كل فاصلة أنيقة من الفرحة بالدمعات … وأخط … يا أغلى من العافية … من صادق وفاي صفحات … كان أقدر أسدد دين وطن غالي وديار غاليات … وأجيك في العيد أطوق للطيبة لمن تعكسها البسمات … اجيك واحضاني شوق وقاد يحن لضلوعك الحانيات … بحبك … وأنتي أصلك حب عميق ما بتوصفوا الكلمات … وأحب عمراً طويل واهباه … ما حب يوم ولا ساعات… أحبك في السواقي الدائرة والدوبيت نغم وصلات … أحبك في الخضار وروائحه ولما تداعبه النسمات … وأحبك في فريق القوز ملاحن من عيون واسعات …وأحبك في فريق معروف أصيل دايب على وجنات … وأحبك لما يهل العيد عليك بالبهجة والفرحات.
رحم الله المبدع الراحل عثمان خالد الفنان “المنسي” الذي ظل كالفراش متنقلاً حراً من بستان لأخر وأدعو الجميع لقراءة سيرة ع خالد وليحفظ الله ابنه الوحيد الطبيب خالد عثمان خالد الذي مازال يحمل المشاعل التي أوقدها والده.