المقالات

عادل عسوم يكتب: ذكرياتي في مكة المكرمة


2/2
عادل عسوم
اليوم هو يوم التروية، حيث يجتمع الحجاج في مشعر منى استعدادا للذهاب إلى عرفات الله في الغد بحول الله.
كنت سنيها أدرس في جامعة ام القرى بمكة المكرمة، وبذلك كنا في حكم أهل الحرم استصحابا لتفاصيل أداء مناسك الحج، وماكان علينا سوى الإحرام من بيوتنا داخل مكة مساء هذا اليوم لنقضى ليلنا في مشعر منى، لنتوجه صباح الغد إلى عرفة.
اعتدنا على ذلك في العام الأول والفصل الأول من العام الثاني، لكننا بعد ذلك تيسر لنا الالتحاق بمعسكر اسمه (جعفر أكبر) في مشعر مني، كانت تؤمه عدد من الجامعات من دول الخليج العربي، أساتذة وطلبة، وكم كانت الفائدة فيه ذاخرة حيث تجد عددا مقدرا من علماء العالم الإسلامي فيه فتجالسهم وتنهل من علمهم طوال أيام المعسكر في منى من قبل الذهاب إلى عرفات، وكذلك بعد العودة من عرفات للبقاء فيه خلال أيام التشريق، ومن أولئك الشيخ السيد سابق مؤلف فقه السنة، والشيخ محمد علي الصابوني مؤلف صفوة التفاسير والعديد من الكتب الأخرى، والشيخ الزنداني، والشيخ ابن حميد، والشيخ الدكتور محمد عبدالله دراز صاحب كتاب دستور الأخلاق في القرآن، والشيخ محمد قطب، وغيرهم كثر، اسأل الله الرحمة لمن رحل منهم والعافية لمن بقى.
المعسكر كان وكما يصفه البعض (5 نجوم) لما فيه من سبل الراحة والطعام الفاخر والسيارات المختارة بعناية للترحيل إلى بقية المشاعر ، وبالطبع لم نكن ندفع مالا مقابل ذلك، إنما يسعى الطالب منا للتقديم قبل الحج على أن يكون معدله الدراسي جيد جدا على الأقل، ولعمري إن الحج برفقة العلماء نعمة عظيمة ولله الحمد والشكر على ذلك.
من الطرائف التي اذكرها خلال أحد مواسم الحج، كان معنا طالب أفريقي من دولة الجابون من طلبة معهد اللغة العربية للناطقين بغيرها (وهذا هو الاسم الصحيح عوضا عن التسمية الشائعة “معهد اللغة العربية لغير الناطقين بها”)، وهو أحد المعاهد المتخصصة التابعة لجامعة ام القرى، وقد كان جل الأستاذة فيه من السودانيين، واسم صاحبنا هذا مصطفى، ما إن جلسنا للغداء في معسكر جعفر أكبر، نبهني احد زملائي السودانيين بأن مصطفى يلبس (مايوه) لونه احمر تحت الإحرام! وعند الفراغ من الطعام دعوناه سويا جانبا وشرعنا في إقناعه بأنه لايجوز لبس المخيط خلال الحج، فإذا به يغضب ويثور ويرتفع صوته وهو يرد علينا بالفصحى وبلكنة الأفارقة المحببة:
يا أخي آدِلُ، أتريد أن تكول لي بأن الله يأمرني أن أكشف أن أورتي المقلظة؟
ومصطفى ماشاء الله، طوله يكاد يصل المترين، ولعله كان من رافعي الأثقال قبل أن يطلب العلم، توحي بذلك بنيته الجسدية.
– يا أخي مصطفى، الأمر ليس أمر كشف عورة أو سترها بقدر ماهو التزام بما شُرِع لنا كمسلمين فعله خلال الحج، فقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالتجرد من المخيط والمحيط.
ظللنا نحاول اقناعه لساعات وفشلنا، فذهبت إلى الشيخ السيد سابق وابلغته بالأمر، واستطاع بعد جهد جهيد إقناعه فنزع عنه المايوه.
ومن نوادر مصطفى الأخرى انه خلال سكناه في سكن العزاب الجامعي وقد كانت العمائر مقامة بجانب مبنى الجامعة القديم في منطقة الحوض/العزيزية داخل مكة (أصبحت المباني الآن خاصة بكلية البنات بعد نقل مباني الجامعة إلى الحِل خارج مكة)، وقد اعتاد المعتمرون والحجاج من أهل الطلبة القادمون من بلدانهم زيارة ذويهم من الطلبة في تلك العمائر، واعتدنا استضافة البعض منهم في غرفنا، لكن ذلك كان ممنوعا من إدارة السكن الجامعي، وكانت الإقامات حينها عبارة عن دفاتر تشبه جوازات السفر الحالية، ويختم داخل إقامة كل طالب منا ختم مستطيل يفيد بأنه (لايصرح له بالعمل بأجر أو بدون أجر).
مصطفى هذا زاره – من علمنا بعد ذلك- بأنه والد خطيبته، وهو من وجهاء دولة الجابون، ولسوء حظ مصطفي مر علي غرفته في ذلك اليوم مسؤل السكن، وقد كان يزور عرفنا بنفسه ليتحقق من عدم استضافتنا للزائرين، ويعاقب كل من يضبط متلبسا من الطلبة بوجود زائر في غرفته بعدد من العقوبات، طرق الرجل باب غرفة مصطفى ففتح له الباب وسأله عن المستضعفين ثم عنفه على ذلك، فغضب مصطفى، وقال لي – وقد كنت جاره- بأنه أحرجه كثيرا امام نسيبه، ولعله اسرها في نفسه تجاه المسؤول السعودي.
ومرت الايام، وخلال يوم مطير من ايام مكة كنا مجموعة من السودانيين نقف امام مسجد الجامعة من الخارج قبيل الذهاب إلى بقية محاضراتنا، فأتى ذات المسؤل بعربته أمامنا لتتعطل فجأة بسبب ارتفاع منسوب مياه المطر الذي قارب حافة الرصيف الذي كنا نقف عليه، فأشار لنا المسؤل السعودي وكان صديقا لعدد منا راجيا المساعدة في دفع سيارته لايقافها على جانب الطريق، فتهيأنا لذلك، لكن ظهر مصطفى فجأة وهو يلبس مايشبه الدراعة الموريتانية، وعندما أفرد يديه أصبح شكله من الضخامة بمكان وكأنه نسر عظيم، قال لنا غاضبا:
ارجوكم يا إكوتي من السودان لايسائدنه أهد منكم.
تم اخرج دفتر الإقامة والتفت إلى المسؤول الذي ينتظرنا للمساعدة وقال له:
انظر إلى المكتوب هنا، ثم قرأ له العبارة:
(لايصرح له بالعمل بأجر أو بدون أجر)
فقهقه الرجل، وقال وهو يوجه حديثه لنا:
اسمعوا يا اخوان، مصطفى هذا منذ اليوم مصرح له بأن يستضيف من يشاء في غرفته.
فما كان من مصطفى إلا أن دفع العربة بمفرده وإخرجها من مكانها.
(يتبع أن شاء الله)
[email protected]

1638177885_718_ارتفاع-اسعار-الذرة-باسواق-محاصيل-القضارف عادل عسوم يكتب: ذكرياتي في مكة المكرمة





المصدر من هنا

زر الذهاب إلى الأعلى