بابكر عيسى أحمد يكتب: السودان … حالة اللا يقين!
حكايات كئيبة ومحزنة وتعيسة سيحكيها الآباء للأحفاد عن زمن الهوان والمذلة والمسغبة والحزن النبيل، حيث تبعثرت الدروب وهربت المنازل بأهلها وهي تحتضن ذكريات الطفولة والصبا وأحلام الشباب وأمنيات الكهولة … سيسطر التاريخ كل المحن والمآسي التي مر بها الشعب السوداني منذ الخامس عشر من أبريل 2023 وما تلى ذلك من أحداث حزينة وبائسة، حيث علت أصوات التخوين والوطن يذبح من الوريد إلى الوريد وتتهدده المخاطر ونحن في فضاء السباب والعنتريات التي ما قتلت ذبابة.
حجم الدمار الذي حاق بالعاصمة القومية وبالبنية التحتية لا يمكن أن يتصوره أحد، والأدهى من ذلك هي “حالة اللا يقين” التي أنتابت الذين شردتهم الحرب اللعينة وما زالوا يحلمون بقرب العودة إلى ديارهم التي هجروها مرغمين فتعرضت للنهب والسرقة والتدمير والمتعمد وكأن بين تتار العصر الحديث وأهالي تلك الأحياء الأمنة ثارات قديمة وكراهية تراكمت عبر السنوات والدهور.
هذه الحرب سمها كما تشاء عبثية ولعينة وسعار مجنون نحو السلطة، وطواطؤ مهين لتحقيق أطماع إقليمية ودولية وسط حالة فاجعة من العجز وعدم القدرة على التوحد لمواجهة هذه المخاطر المتعاظمة التي باتت تهدد الوطن في وجوده وفي بقائه موحداً ومتحداً في مواجهة كل المخاطر والخطوب والأهوال المتوقعة والمنتظرة والقادمة إلينا عبر الحدود والأجواء المفتوحة.
تعبنا كثيراً ونحن خارج الوطن نتابع خطى التائهيين والمبعثرين في القرى والداخل الوطني حتى نبلغ مسار الذين عبروا الحدود،،وازدحمت بهم طرقات المدن الغريبة يحملون الأمل أن تكون عودتهم إلى ديارهم قريبة، ويباصرون أحوالهم مع نفاذ الدراهم القليلة التي يحملونها أو هربوها بعيداً عن أعين الجنجويد الذين يسرقون وينهبون كل شيء وكيفما كان وبأحقر الطرق والوسائل.
كثيراً ما نسمع عن قرب ساعة النصر ودحر الغزاة الجدد وتطهير المدن وسحق المتمردين في قلب العاصمة وأطراف المدن إلى أن نكتشف أننا ضحايا حرب إعلامية طاحنة بين الأطراف المتحاربة، حتى بتنا نكره القنوات التلفزيونية والوسائط الإجتماعية، ويصبح الإنسان تائهاً وسط هذا الكم الهائل من الأكاذيب والمغالطات والفضائح المالية والأخلاقية، وباتت الحقيقة هي ضحية هذا الكم الهائل من التضليل المتعمد والتدويخ الدعائي الممنهج لمصادرة الشعوب عن مسرح الأحداث وتغييب الحقيقة.
الأن دخلنا الشهر الخامس لهذه الحرب اللعينة والسلاح يتسرب إلى الأطراف ليطيل أمد المعاناة وليزيد الحريق اشتعالاً، وعندما تطالب بوقف هذه الحرب أو ترفع عقيرتك بعبارة “لا للحرب” فأنت بالضرورة خائن وعميل وسند للدعامة الذين انتهكوا عرض الوطن واستباحوا حتى حرمات البيوت واغتصبوا الحرائر ودنسوا طفولة الصغار اليافعين.
في حالة “اللا يقين الراهنة” ماذا يقول عنا الراهن وماذا سيكتب عنا التاريخ في الغد … شعب عجز أن يتوحد ويسقط تناقضاته الثانوية في مواجهة التناقض الوجودي والجوهري الذي يهدد وجوده ويجعل وطناً بعظمة الشعب السوداني في خانة “أن يكون أو لا يكون”، وهو وطن ليس بالهين فقد وهبه الله كل شيء، لكننا نفتقر إلى الإرادة لنبني حاضرنا ومستقبلنا وفق مانهوى وما نريد.
وقوفنا جميعاً خلف القوات المسلحة السودانية في هذه المرحلة المفصلية أمر مطلوب ولكن الأهم أن نتكاتف ونضع خارطة طريق تخرجنا من نفق المنازعات القبلية والجهوية والمناطقية المظلم وأن نزيح عن كاهلنا لعنة كراهية الآخر والعنصرية التي لم تورثنا سوى الخيبة والفجيعة.
السودان ليس بالوطن العاقر من الرجال فلدينا في كل أرجاء العالم قامات مشهود لها بالعطاء والقدرة ويجب استيعابها في وعاء وطني عريض حتى تشكل صمام أمان للحاضر وسواعد لبناء المستقبل الواعد.
هذا الذي نقول ليس امنيات كسيحة ولكنها فرصة ممكنة لتجاوز “مرحلة اللا يقين” وأن نعيد للوطن عافيته وسماحته وأن نكون خيراً لأهلنا ولجوارنا الأفريقي والعربي وأن نرفع شعار اليقظة والحيطة والحذر، فليس كل ما يبدو في أفقنا هو خيراً لنا وعلينا أن نفرق بين الغث والسمين وأن نبني وطناً عبر رؤية ثاقبة وقادرة، والأوطان لا تبنى بالأمنيات وإنما بالعمل المخلص والجاد والأمين وأن نتطهر من أدران الماضي حتى نبلغ مرحلة اليقين عوضاً عن “اللا يقين”.