أخبار السودان

الماجد النبيل: السفير ماجد يوسف يحيى 


🖋️ صديق محمد عثمان

 

– عرفت الأخ الراحل السفير ماجد يوسف يحيى منتصف الثمانينات ونحن ندلف إلى كلية القانون بجامعة الخرطوم، ومنذ أول وهلة أدركت أنه مختلف عن الجميع. ولم نكد نستقر بالجامعة حتى وقعت الانتفاضة في أبريل ١٩٨٥ وخرجنا معظمنا نشارك في تأسيس الجبهة الإسلامية القومية، ثم انخرط معظمنا في مناشط سياسية حتى ونحن طلاب بالجامعة، وكان من نصيب ماجد أن يختار مهنة الصحافة التي أحبها، وسرعان ما برزت موهبته في الحوارات الصحفية والتقارير الإخبارية وذلك بسبب ثقافة عالية، فالراحل كان نهماً في القراءة العامة، ملماً بمستجدات الأحداث، مدركاً لخلفياتها التاريخية.

– وكان له اهتمامٌ خاصٌ بقضايا السلام، أذكر أن أحد زملائنا من أنصار الحركة الشعبية وكان شديد المراس خاصّةً في مواجهتنا كإسلاميين وذات يوم أُصيب بأزمة صحية طارئة وعاجلة فتم نقله إلى مستشفى الخرطوم واحتاج إلى نقل دم، فذهبنا للمستشفى ووقع الاختيار على ثلاثة من بيننا للتبرع بالدم، من بينهم إحدى الأخوات وعدنا في المساء للاطمئنان عليه فوجدنا قد نقل لتوه إلى العنبر فدخل عليه ماجد وهو يقول له (اوع تاني اسمعك تتكلّم عن انفصال وعرب وإسلام وزنوج، فقد أصبح عندنا زجاجة دم في شرايينك)!!

– كان ماجد من ضمن المجموعات الأولى التي تولّت سكرتارية مفاوضات السلام بين الحكومة والحركة الشعبية مع الإخوان موسى علي سليمان وموسى سيد أحمد عليهما الرحمة، وكان الشهيد موسى علي سليمان بصفة خاصّة يهتم بجوانب لا يهتم بها المفاوضون، إذ كان يجتهد في الاتصال الفردي بقيادات الحركة الشعبية، وفي سبيل ذلك كان يجتهد في عمل بروفايل لكل واحد منهم، ويبحث عن أقرب الأشخاص إليه من الذين درسوا أو عملوا أو سكنوا معه في مراحل الحياة الدراسية والمهنية ومنه أخذ ماجد الكثير فواصل في ذات الدرب.

 

– وبسبب سماحة نفسه وبساطته وثقافته العالية جداً، استطاع ماجد خلال سنوات قليلة من انتقاله إلى العمل الدبلوماسي أن يجعل ملفات السلام في صلب عمله والذي اتّسم بالتميُّز والفرادة، فلم يخدم ماجد في محطة على مستوى من مستويات الدبلوماسية إلا واستطاع اختراق حواجز العلاقات الرسمية الجامدة وتأسيس علاقات شخصية مع القيادة السياسية في البلد التي يخدم فيها؛ فعل ذلك في نيروبي وفي كمبالا وفي أسمرا، وقبل ذلك في هراري، حتى توطّدت علاقاته برؤساء هذه البلدان وكبار قادتها التنفيذيين.

– إذا ذكر الاعتدال والوسطية والموضوعية، فإن الراحل السفير ماجد يوسف كان نموذجاً فريداً، لذلك فمهما بلغت درجة اختلافه في الرأي مع شخص أو جهة ما؛ فقد كان ماجد يمتلك قدرة كبيرة على تحديد هذا الاختلاف وحصره في حدود منضبطة جداً ثُمّ يبدأ في استحضار واستغلال المساحات الواسعة من الوجود التي تجمعه بمَن يختلف معه بالرأي في مسألة محددة، ولهذا السبب يصعب جداً أن تجد شخصاً يحتفظ لماجد باختلاف كبير وشديد في وجهات النظر.

– كان كثيف المعرفة، غزير الثقافة، الأمر الذي يُمكِّنه من التعبير بدقة شديدة واختصار غير مُخلٍ عن القضايا المُعقّدة وتحويل المواقف الحرجة إلى طرائف، يفتح بها مغاليق القلوب وأبواب الفضاء التي يغلقها سوء التفاهم أحياناً.

 

– من المواقف الطريفة في أيام الجامعة، حدث أن أعلنت جمعية حقوق المرأة عن عقد جمعيتها العمومية في داخلية الطالبات، وبرز سؤالٌ هل الجمعية مُغلقة على الطالبات فقط؟ وماذا عن الطلاب الذكور الذين يناصرون قضايا وحقوق المرأة؟ ولكن ماجد استطاع تحويل الموقف كله إلى طرفة حينما تقدّم بطلب لعمادة الطلاب للسماح له بدخول داخليات الطالبات لحضور الجمعية العمومية لجمعية حقوق المرأة!! طبعاً هو أراد بذلك الموقف أن ينبه إلى خطل فكرة انعقاد الجمعية داخل الداخليات، فاستغل علاقته ومعرفته بعميد الطلاب حينها وطاقم العمادة.

– وأوائل التسعينات، تجمّعنا في المساطب الجانبية للميدان الشرقي لجامعة الخرطوم لنشهد طابور تخريج أول دفعة من مُجنّدات الدفاع الشعبي والتي شاركت فيها أعداد من طالبات الجامعة حينما حضرت إحدى الأخوات وقالت لنا بحماس وانفعال شديد (ينبغي أن تخجلوا من أنفسكم وقد تدرّبت النساء على السلاح وأنتم لا تزالون خارج معسكرات الدفاع الشعبي)!!؛ ولكن ماجد عاجلها: (هسسسس يا اختنا إنتِ ما سمعتي بالبوليس السري كلو كلو!! نحن البوليس السري)!!

 

– وبعد مُفاصلة الإسلاميين أوائل هذا القرن، اتصلت به يوماً وتحدّثنا طويلاً، وفي الحقيقة كنت أنا أجادل وماجد يحاور، وكنا قد انقطعنا عن اللقاء لفترة طويلة بسبب غيابي وغيابه عن البلد فدعاني للعشاء بمنزله، فقلت له ليس لديّ مانعٌ للعشاء معك إذا كنت أنت لا تمانع من احتمال اقتحام قوات الأمن منزلك للقبض عليّ!! وضحكنا!! وفي المساء ذهبت إليه واستأنفنا ما انقطع من حوار حتى وقت مُتأخِّر من الليل وبعد جدال طويل سألني (إنت أسي يا برلوم عايز مني شنو؟ وعايز تقنعني بشنو؟!) فقلت: ولا شيء!! ثم ودّعته وانصرفت! وفي الحقيقة أنا لم أكن أبحث عند ماجد على اتفاق، وإنما مجرد الحوار من أجل الحوار، فماجد كان من الأشخاص الذين يُمكنك عرض أفكارك عليهم والاطمئنان إلى أمانة ودقة ورجاحة نقدهم لفكرتك أو تأييدهم لها، كأنه عليه الرحمة كان (proof reader) تقرأ أمامه أفكارك فيُصوِّب أخطاء النحو والطباعة ويعدل عوج الصياغة.

– إنّ أمثال ماجد من الذين يرفعون سقف الفضاء العام ويُوسِّعون مساحته بسماحة نفوسهم وسعة أفقهم وطيب خاطرهم وبدونهم ستصبح الحياة السياسية صعبة للغاية والفضاء العام ضيِّقاً لا يتسع لتعدد الآراء، ولذلك فإنّ رحيل أمثاله ينبغي أن يلفتنا إلى الثغرة التي كان يسدها.

 

– يلزمنا الاستغفار وطلب الرحمة لأخينا العزيز وقد أفضى إلى ما قدم؛ ولكن يلزمنا النهوض إلى ميراثه من السّماحة رأفةً بأنفسنا وعلى سبيل الحرص على استخلاف ميراثه فينا حتى لا نستبدل احترام الاختلاف وتجاوزه بالاحتراب والخصومة.

– اللهم أغفر لعبدك ماجد يوسف يحيى واربط على قلوب أسرته وأهل بيته ومعارفه وزملائه في العمل وأصدقائه العديدين.

ولا حول ولا قوة إلا بالله



المصدر من هنا

زر الذهاب إلى الأعلى